فراس البكوش : من عامل حضيرة إلى بطل عالمي ..
فراس البكوش : من عامل حضيرة إلى بطل عالمي .. |
كان "فراس البكّوش" جالسا في المقهى في ساعة متأخرّة من اليوم يحتسي القهوة مع أصدقائه في قريته "الغضابنة" من معتمدية قصور الساف، قبل التنقّل لقاعة الرّياضة للتدرّب ككلّ يوم.
يبلغ "فراس" 25 سنة، شاب رياضي مفتول العضلات، وُلد في قرية "الغضابنة" من ولاية المهديّة، وهي قرية صغيرة لم يتجاوز عدد سكّــانها خمسة آلاف نسمة وتعتمد على النشاط الفلاحي والصيد البحري التقليديّ، و"فراس" من أكثر الشباب المعروفين في الجهة، فما إن حاولنا البحث عليه حتّى دلّنا أغلب من سألناهم على مكانه، وكانوا يُطلقون عليه "البطل".
جلسنا مع "البطل" في المقهى المتواضعة حول طاولة بلاستيكيّة قديمة، وكان يُحدّثنا بكلّ ثقة عن بداياته مع الرّياضة والألعاب الفرديّة والكاراتيه.
انطلقت مسيرة "فراس" في الثانية عشرة من عمره، وكان يتدرّب في قاعة دار الشباب بالقرية مع مجموعة من أبناء جيله، ويقول أترابه أنهم فوجئوا بما تحصل عليه "فراس" من ألقاب فلم يكن أحسن المتدرّبين في النادي ولا أفضلهم.
تدرّب لسنوات طويلة وفي أوقات مُختلفة، كان يشتغل في الفلاحة ليُساعد عائلته محدودة الدّخل، وكان يُبحر على متن قارب صغير مع والده لمُجابهة مصاريف الحياة، ولكنّه لم ينقطع عن التّدريب، فكان يُجمّع المعلوم الشهري لنادي الكاراتيه، ويعجز في بعض الأحيان عن جمعه فيُساعده مُدرّبه ليؤجّل الدّفع للشهر الموالي وفي بعض الأحيان يُعفيه من الدّفع نهائيّـــا.
ساهم "فراس" مع أترابه في تجهيز قاعة التدريب التي كانت تفتقر لكلّ التّجهيزات، قاعة صغيرة بدون أرضية مهيّأة أو مرآة أو أيّ شيء، لا تختلف كثيرا عن غرفة فارغة بإحدى المنازل حديثة البناء، جمّعوا مبالغ مالية مُختلفة بمساهمات بسيطة فجهّزوها بالضروريات ثمّ تدخّلت وزارة الشباب والرياضة فهيّأت الأرضيّة.
يتدرّب "فراس" في كلّ الأوقات، يتدرّب أثناء عمله في حضيرة البناء، حيث اضطرّ لترك مقاعد الدراسة والعمل لمُساعدة عائلته، يتدرّب أثناء رفع الشباك من البحر، يتدرّب دوما ولم يكُن مُلزما فقط بحصص التدريب في القاعة.
حدّثنا "نزار الخميري"، وهو أحد أصدقاء "البطل"، وكان جالسا بجانبه في المقهى :"فراس يتدرّب دوما ولم يكتفي بالكاراتيه بل اختص في رياضات فردية أخرى كالكيوكشنكاي والكيك بوكسينغ وحقق فيهم نتائج جيّدة، ونحن نفخر به".
انتقل "فراس" للتدرّب مع جمعية قبودية الرياضية بالشابة سنة 2010، وكان يتنقّل من الغضابنة للشابة (حوالي 10 كلم) في ساعات متأخرة من الليل على متن دراجة عاديّة أو مترجّلا أو كان يتدبّر، في أحسن الحالات، دراجة ناريّة من أحد أصدقائه، وشارك في العديد من التربصات بإمكانياته الخاصة وغطّى مصاريفه بعمله اليومي في حضائر البناء والصيد البحري، وشارك سنة 2011 في البطولة العربية للأواسط في الكيوشنكاي في مدينة سوسة، وحاز على المرتبة الثالثة عربيّــا، حيث أُعجب به البطل العالمي للكيوشنكاي "الصادق كوكة" وقرّر ضمّه للفريق الوطني للكيوشنكاي.
كان والد "فراس" يُشجّعه دوما على التدرّب، وكان فراس يُحاول تنظيم وقته بين العمل والهواية حتّى قرّر الهجرة لايطاليا والعمل في مزارع العنب كبقية الشباب من أبناء جهته، لكنّه لم ينقطع يوما عن بناء قدراته.
كان ينظر الى ساعته ويحتسي القهوة وحدّثنا على تلك الفترة، صيف 2013 :" كنت أشتغل من الخامسة صباحا في مزرعة العنب وأنهي عملي على الساعة الخامسة ونصف مساءا، وكنت أبيتُ مع بعض أصدقائي من أبناء قريتي، وطلبوا مني مواصلة التدريب هناك، وكانوا ينظّفون البيت ويعدّون العشاء، فيما أتدرب للساعة العاشرة ليلا، كانت فترة صعبة ولكني كنت جاهزا اثرها لخوض تجربة البطولة الايطالية."
تحصّل "فراس" على المرتبة الثالثة في رياضة كيك بوكسينق في ايطاليا سنة 2013، ثم المرتبة الثانية سنة 2014، وتمت دعوته من قبل الجامعة الايطالية عديد المرات للّعب ضمن المنتخب الايطالي وتمكينه من الجنسية الايطالية ولكنّه رفض ذلك، وأصر على المُشاركة دوما بالعلم التونسي.
يعتبره بعض أصدقائه مجنونا وقد حاولوا اقناعه مرارا قبول العرض الايطالي حتّى يحسّن وضعه المالي ووضعية عائلته لكنه يُصرّ قائلا: "لا يعرفون طعم الاحساس عند رفع العلم الوطني في الخارج".
سنة 2015، لم تتمّكن الجامعة التونسية للكيوشنكاي من التكفّل بمصاريف مشاركته في البطولة العالمية في ايطاليا، فجمّع ما أمكن له من مال بالعمل واقتراض بعض المبالغ من الأصدقاء والعائلة وأصرّ على المشاركة، وأصبح يوم 17 ماي 2015 بطلا عالميّــا في هذه الرياضة.
يقف كلّ رواد المقهى لإلقاء التحيّة على "فراس" ومن معه من ضيوف، وقد كان شديد الخجل والتواضع، فهو يحب أبناء قريته رغم ما تعرض له من انتقادات وحط للعزائم أثناء مسيرته :"كانوا في بعض الأحيان يستهزؤون بي ويطلبون مني بيع ميداليتي لتجار التّحف، ويطلبون مني الذهاب كأبناء جيلي للعمل بمزارع العنب في ايطاليا وترك الرياضة".
دخل المقهى رجل طويل القامة يحظى باحترام الجميع، فجلس بجانبنا، واتّضح أنّه رئيس المجلس القروي بالغضابنة "سليم الوج"، وأكّد أنه يُشجّع "البطل" على مُواصلة المشوار والعمل من أجل الراية الوطنية وقال "فراس مفخرة جهتنا وأنا أشجّعه على المواصلة، وقد جعل أعيان القرية يفكّرون في مطالبة السلط ببناء قاعة رياضات فردية فقد صار لدينا أبطال يستطيعون تدريب الناشئة"
لم تكن لفراس، الذي رافقنا للسيارة قبل المُغادرة، أحلام كثيرة، فهو يرى نفسه قادرا على تحقيق المزيد من النتائج رغم المصاعب، يحلم باللعب مع الكبار ونيل ثقة الشركات الكُبرى لدعمه في مسيرته، كما يحلم بتقديم هديّة لأبناء قريته وخاصة أطفال المدارس بتركيز قاعة تدريب مُجهّزة يدرّب فيها بنفسه، وتكون الحصص فيها مجانية لمن سنهم دون الثالثة عشرة رأفة بضعاف الحال.
غادرنا "الغضابنة" وكان "فراس البكوش" في طريقه للتدرّب استعدادا لبطولة العالم في شهر أفريل القادم بالبرتغال، كُلّه أمل وعزم لـرفع العلم التونسيّ على منصّة التّتويج مرّة أخرى.
بقلم نزار بن حسن - موقع ياوث مور
12:12:00 ص