لغة القالب

المهدية : حاضرة الفاطميين الأولى وإحدى مفاخر تونس في العصر الحديث

المهدية : حاضرة الفاطميين الأولى وإحدى مفاخر تونس في العصر الحديث

المهدية مدينة تونسية تقع عند جهة الساحل في الوسط الشرقي للبلاد وهي مركز ولاية المهدية التي هي إحدى الولايات الثلاث المشكلة لمنطقة الساحل. ويجعل موقع المهدية، التي يحيط بها البحر من ثلاث جهات، المدينة وجهة سياحية مفضلة للعديد من التونسيين والأجانب الذين تسحرهم شواطئها النظيفة وفنادقها الفخمة.

تاريخ ضارب في القدم

لكن المهدية أيضا هي مدينة تاريخية مهمة باعتبارها أولى حواضر الفاطميين وعاصمتهم في الشمال الافريقي التي نما فيها ملكهم وتشكلت معالمه وأصبح جاهزا للتوسع باتجاه المشرق. فقد اتخذها الخليفة الفاطمي الأول عبيد الله المهدي عاصمة لخلافته ومنه استمدت اسمها الذي حافظت عليه منذ ذلك التاريخ أي سنة 308 هجرية 920 المكان الذي تتواجد فيه مدينة المهدي اليوم قد مرت عليه جميع الحضارات التي شهدتها تونس على غرار الحضارة القرطاجية أو البونية كما يطلق عليها المؤرخون.
وبذلك فان المهدية هي ثاني العواصم الإسلامية لما تعرف اليوم بتونس بعد مدينة القيروان التي سيعود إليها الفاطميون لاحقا من خلال صبرة المنصورية التي سيتخذونها قاعدة لحكمهم ومنها سينطلقون إلى مصر لتأسيس القاهرة والاستقرار فيها. ليرسلوا لاحقا قبائل بني هلال وبني سليم لتخريب افريقية (التسمية العربية الإسلامية لما تسمى اليوم تونس والتي ستمنح لاحقا لكامل القارة الافريقية)التي استقل بحكمها الصنهاجيون بعد رحيل الفاطميين الذين لم يستسيغوا أن يستأثر بنو زيري بحكم افريقية (تونس اليوم وجزء من التراب الجزائري).
ومع دخول البلاد في حالة من الفوضى بعد قدوم الهلاليين طمعت أطراف عديدة في السواحل التونسية فكانت المهدية ضحية هذه الحقبة بامتياز حيث تكالب عليها الغزاة من كل حدب وصوب. وانتهى المطاف بعاصمة الفاطميين الأولى مدينة مدمرة على يد الاسبان لاحقا وهو ما جعل دورها الحضاري يتراجع شأنها شأن مدينة القيروان التي حولها بنو هلال قبل ذلك بكثير إلى خراب.

زويلة أو ثاني المهديتين

وبمحاذاة المهدية، مقر الملك، بنى الفاطميون الأوائل مدينة زويلة التي جعلوها لسكن العامة من سائر القبائل الأمازيغية والعربية التي استهوتها دعوات الفاطميين، فاستقر بزويلة جمع كبير من البشر عمروا الحاضرة الناشئة. وتلاصقت المدينتان حتى أصبحتا جزءا لا يتجزأ من بعضهما البعض وغاب إسم زويلة مع الوقت وطغت المهدية على ما حولها واقتصر ذكر زويلة على كتب التاريخ.
ويقول المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب في هذا الإطار: «وابتنى لسائر الناس مدينة أخرى تسمى زويلة وهي إحدى المهديتين وبينهما قدر غلوة سهم، وجعل الأسواق والفنادق فيها، وأدار بها خنادق متسعة تجتمع بها الأمطار، فكانت كالربض لمدينة المهدية. وكانت تشتهر بحمى زويلة، المليئة بالحدائق والبساتين المزروعة بشتى الثمار وأنواع الفاكهة».
ويشار إلى أن عبيد الله المهدي قد أمر بردم جزء من البحر حتى يجد أراضي إضافية لتوسعة المدينتين وتحصينهما من الغزاة القادمين من وراء البحار وخصوصا رجال الشمال من الأوروبيين. وكذلك لإقامة ميناء كبير يربط المهدية بصقلية الإيطالية التي كانت خاضعة لحكمه منذ عصر بني الأغلب الذي حكموا ما تسمى اليوم تونس.
وألحقت صقلية بافريقية على يد القاضي أسد بن الفرات الذي غزاها وأخضعها لملك بني الأغلب في القيروان وهي التي خرجت عن السيطرة منذ أن حررها الرومان من القرطاجيين في حقبة ما قبل ميلاد المسيح. وأنجبت صقلية للفاطميين جوهر الصقلي القائد الذي سيطر على مصر وبنى القاهرة وجهزها للمعز لدين الله الفاطمي ليتخذها عاصمة له بدلا عن المهدية وصبرة المنصورية بالقيروان (التونسيتين) وذلك رغبة في الاقتراب أكثر من عاصمة الخلافة الإسلامية في بغداد للسيطرة عليها وإنهاء حكام العباسيين وهو ما لم يحصل.

معالم المدينة

عرفت المهدية بأسوارها الشامخة المحصنة في وجه الغزاة باعتبارها مدينة ساحلية، وأيضا بأبوابها وجامعها الكبير في وسط المدينة وبأسواقها على غرار جميع المدن العربية الإسلامية. كما عرفت بما تسمى «السقيفة الكحلاء» وهي إحدى مداخل المدينة التي تطغى عليها الظلمة، ومن هنا جاءت تسمية «الكحلاء» أي السوداء باللهجة العامية التونسية، وهي مزار سياحي مهم ومن معالم المدينة الهامة وتسمى أيضا «باب زويلة».
ومن بين معالم المهدية أيضا قصر القائم بأمر الله الذي بناه عبيد الله المهدي في أوائل القرن العاشر لابنه وخليفته في الحكم القائم بأمر الله، وقد عاد أمراء الصنهاجيين إلى العيش في هذا القصر بعد خراب صبرة المنصورية بالقيروان على يد الهلاليين. وقام الاسبان لاحقا بهدم هذا القصر مثلما فعلوا لعدد من المعالم التاريخية في البلاد التونسية تحدوهم رغبة في طمس كل ما يمت للحضارتين العربية والإسلامية بصلة.
ويبقى الجامع الكبير أهم معالم المهدية إلى جانب أسواقها التقليدية ومدينتها القديمة التي لا تختلف في تخطيطها عن سائر المدن العربية الإسلامية. ولعل ما يميز هذا الجامع الكبير أنه لا توجد فيه مئذنة ولا يعرف هل بني منذ البداية على هذه الشاكلة أم أن عملية تحويله من قبل الاسبان في القرن السادس عشر إلى كنيسة ومقبرة قد غيرت من معالمه وهدمت المئذنة.
ويشار إلى أن العثمانيين أقاموا على أنقاض قصر عبيد الله المهدي حامية لجيشهم الإنكشاري وغيروا الكثير من حيث الشكل لهذا المعلم التاريخي. فتحول هذا القصر إلى برج أو حصن غايته دفاعية خاصة وأن الصراع العثماني الاسباني على النفوذ في البحر الأبيض المتوسط كان في أوجه وكان أكثر شراسة من صراعات قرطاج مع الاغريق ثم مع الرومان في نهاية عهدها.

الميناء القديم

وتتميز المهدية أيضا بمينائها القديم الذي بناه الفاطميون وبقيت بعض آثاره إلى اليوم شاهدة على تميز في الحضارة العربية الإسلامية، ذلك أنه عرف عن العرب ابتعادهم عن البحر عند انشاء العواصم والحواضر الكبرى وخوفهم منه. فلم يعرف عنهم أنهم نسبوا بحرا لأنفسهم أو اعتبروه جزءا من إقليمهم أو أنهم شعروا أن عليهم واجب اكتشاف ما يكتنزه من أسرار. فالمتوسط بالنسبة لهم هو بحر الروم رغم أنهم أحاطوا به من كل حدب وصوب، والأطلسي في مخيلتهم هو بحر الظلمات الذي لم يفكروا يوما في تجاوزه رغم ملامستهم لسواحله في أقصى بلاد المغرب وفي الأندلس.
في حين أن مهدية الفاطميين، بخلاف بغداد والقيروان وقرطبة، جاورت البحر الذي أحاطها من جهات ثلاث وتسببت في ردم أجزاء منه وتهيئة كل الظروف لإعماره وغزوه والانتفاع من خيراته. وفي هذا الإطار يقول المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب: «أول ما ابتنى عبيد الله المهدي من مدينته سورها الغربي الذي فيه أبوابها، ثم أمر بحفر مرسى المدينة، وكان حجرا صلدا، فنقره نقرا وجعله حصنا لمراكبه الحربية، وأقام على فم هذا المرسى سلسلة من حديد رفع أحد طرفيها عند دخول السفن ثم تعاد كما كانت، تحصينا للمرسى من دخول مراكب الروم. وابتنى دار الصناعة (صناعة السفن)، وهي من عجائب الدنيا، ثم شرع في حفر الأهراء داخل المدينة وبنى الجباب والمصانع، واختزن الأهراء بالطعام، وملا الجباب (جمع جب) بالماء».

المهدية اليوم

أصبحت المهدية إحدى أهم المدن السياحية التونسية مستغلة جمال سواحلها ونظافة بحرها وثراء مخزونها التاريخي والحضاري وكثرة معالمها. كما تتميز بأسواقها التقليدية التي يجد فيها السائح ما يشفي الغليل من الصناعات التقليدية التونسية الأصيلة.
وتعتبر الباحثة الجامعية التونسية إيمان النمري، وهي من عشاق مدينة المهدية وتحبذها لقضاء إجازتها برفقة أفراد أسرتها، في حديثها لـ «القدس العربي» أن المهدية هي من أفضل الوجهات السياحية ليس فقط في تونس وإنما في كامل حوض البحر الأبيض المتوسط. ففيها هدوء وجمال للطبيعة قل وندر، وفيها فنادق جميلة وراقية تقدم أجود الخدمات وهي مناسبة لسياحة العائلات بعيدا عن ضوضاء سياحة المراقص الليلية.
وتضيف: «لذلك فإن العائلات التونسية تقبل بكثافة على المهدية شأنها شأن العائلات الجزائرية خاصة وأن البيئة سليمة في هذا المكان والبحر نظيف. كما أن الثروة السمكية تغري بالمجيء لتذوق أجود الأطباق من الطعام البحري الذي برع في إعداده أهالي المهدية».
وتختم بالقول: « في المهدية أيضا تراث عريق يتجلى في طقوس الزواج وغيره من المناسبات والأعياد وفي اللباس التقليدي الذي يميز سكانها. فهي مدينة متميزة ولديها هويتها المحلية التي هي نتيجة لتراكمات تاريخية ولحضارات تعاقبت عليها وعلى محيطها، ويمكن للسائح أن يطلع عليها عن كثب خاصة وأن أهل المهدية يتميزون بانفتاح كبير على الآخر وبالترحاب بالزائر وحفاوة استقباله».

أعلامها

لقد أنجبت المهدية من القديم عددا كبيرا من المشاهير في مختلف الميادين إلا أن من بقوا عالقين في الأذهان هم أولئك الذين خاضوا الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي مثل البشير صفر الذي ساهم في تأسيس حركة الشباب التونسي سنة 1906 والتي انبثق عنها لاحقا الحزب الحر الدستوري على يد عبد العزيز الثعالبي. وساهم البشير صفر ورفاقه، الذين يعتبرون امتدادا لجيل الحركة الإصلاحية التي برزت في تونس في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، في توعية التونسيين بمخاطر الاستعمار تمهيدا للمطالبة بالاستقلال لاحقا من قبل أبناء التيار الدستوري.
كما أنجبت المدينة المناضل الطاهر صفر وهو أحد مؤسسي الحزب الحر الدستوري الجديد بمعية الزعيم الحبيب بورقيبة سنة 1934 في ما عرف بـ»مؤتمر قصر هلال» الذي خرج فيه الدستوريون الجدد عن القدامى وطالبوا لأول مرة باستقلال تونس عوضا عن المطالب الإصلاحية التي كان يطالب بها الدستوريون القدامى.
ولعل أهم مشاهير المهدية على الإطلاق هو عالم الذرة المرحوم البشير التركي الذي ولد في 21 آذار/مارس 1931 وتوفي بها يوم 14 آب/اغسطس 2009. وقد انتخب التركي وهو العالم الشهير سنة 1969 رئيسا للوكالة الدولية للطاقة الذرية كأول عربي يحتل هذا الموقع المهم، ورشحته لهذا المنصب دول عدم الانحياز بعد إنجازات عظيمة محليا وعربيا ودوليا في مجال الطاقة الذرية.

بقلم روعة قاسم - القدس العربي
2:05:00 م
عدد المواضيع